فصل: باب: مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ لا يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّة

جَزَمَ البخاري هنا بمذهب الإِمام الأعظم رحمه الله تعالى وترك مذهب الشافعية‏.‏ قال الحنفية‏:‏ إن الإِسباغ في المسح هو بالاستيعاب، لأنه لا يُنَاسبُه التثليث‏.‏

192- قوله‏:‏ ‏(‏من ماء‏)‏ هذا تصريحُ بكونِ الماءِ واحداً‏.‏

192- قوله‏:‏ ‏(‏وقال مسح برأسه مرة‏)‏ وفَهِمَ هذا الراوي عينَ ما فهمه الحنفية‏:‏ أن الإِقبال والإِدبار حركتان، والمسحُ واحد‏.‏ ولم يحملهما على التكرار في المسح كما فَهِمَه الشافعية رحمهم الله تعالى‏.‏

باب‏:‏ وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَفَضْلِ وَضُوءِ المَرْأَة

واعلم أن تَطُّرَ الرجل والمرأة من إناء واحد جائزٌ بإِجماع المسلمين، وكذا تطهر المرأة بفضلِ الرجلِ أيضاً جائزٌ بالإِجماع‏.‏ وأما تطهر الرجل بفضلها، فذهب جمهورُ السلف والأئمة الثلاثة إلى جوازه، سواء خَلتْ بالماء أو لم تخِلِ‏.‏ وقال أحمد وداود‏:‏ إنها إذا خلت بالماء واستعملته لا يجوزُ للرجلِ استعمال فضلها‏.‏ وجمِعِ الخَطَّابِي بين أحاديث النهي عن الفضل وجوازه‏:‏ بأن المراد من الفضل في أحاديث النهي المُتَساقط من الأعضاء، وفي أحاديث الجواز ما بقي في الإِناء‏.‏

وحاصله‏:‏ أنه نهى عن استعمال الماء المتساقِطِ من الأعضاء، وأباح استعمالَ الماءِ الباقي في الإِناء، فلا تنافي بين الحديثين‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل المراد به في الحديثين هو الباقي في الإِناء، والنَّهي لئلا تخطَر ببالِهِ الوساوس الشهوانية‏.‏ ويرد عليهم قوله‏:‏ «وليغترفا جميعاً»، فإن النهي إن كان لأجل الوساوس، فهي في حالة الاغتراف جميعاً أزيدُ وأكثر منها في حالة الانفراد‏.‏ وحمله بعضهم على التنزيه، وهو الصواب، إلاّ أنهم لم يُبيّنوا مرادَ الحديث، وهو مع كونه بديهياً عسيرٌ‏.‏ وكأنه من قبيلِ السهلِ المُمتنع، وقد كشفَ اللهاُ على مرادَه‏.‏

فاعلم أنَّ النَّهي في الغسل ورد من الطرفين، كما هو عند أبي داود‏:‏ نهى الرجل أن يغتسل بفضل المرأة، والمرأةَ بفضلِ الرجل» وفي الوضوءِ من جانبٍ واحدٍ فقط، فنهى الرجلَ عن فضلِ المرأة، ورأيتُ عكسَه أيضاً في بعض الروايات، إلاّ أن المحدثين عللوه‏.‏ ومناطُ النَّهي عندي‏:‏ هو صِيَانة الطَّهُور عن وقوع الماء المُسْتَعْمَل فيه، كما مرّ مني‏:‏ أنَّ الماء المُسْتَعْمَل وإن لم يكن نجساً عند صاحب الشرع، إلاّ أن المطلوبَ الاحتزاز عنه والاحتياط فيه، لئلا يقع في مُغْتَسَلِهِ، وهو المذكور في فقهنا، حتى لو سقط الماء المُسْتعمَل في وَضُوئه وغَلَب عليه، لا يجوز الوضُوء منه، ولا يبقى مُطَهِّراً‏.‏

ولمّا كانت النساء أقل نظافةً، وأقل احتياطاً في أمور التطهير، خصَّ الرجل بالنهي عن استعمال فضلهَّن‏.‏ ولو ثَبَتَ عكسه أيضاً، فالنهي عن فَضْل الرجال جَرْياً على مقتضى طَبْعهن، فإِنهنَّ يَرَوْن الرجال أقلّ نظافةً من أنفسهن، فراعى في الأول الواقع في نفس الأمر، وفي الثاني الواقع في زَعْمِهنَّ، لئلا تَتَوَسْوَس صدورهنَّ في استعمال الماء، فإِن عدم الوسواس في أمر التَّطَهّر مطلوبٌ‏.‏ فناسب أن ينهى عن فَضْل الرجال أيضاً، حسماً لمادة الوَسَاوِس وقطعاً لِعرْقها، والمراد منها التي تقع في طهارة الماء وعدمها، دون الوَسَاوِس الشهوانية‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الحديث وَرَدَ على وَفْق طَبْع الرجال والنساء، وإن كان ما في طَبْع الرجل مُوَافقاً للواقع، وما في طَبْعهنّ مخالفاً له، إلا أن الغرضَ لمّا كان قَطْع الوَسْوَاس لم يُنَاظِر معهنَّ، وتركهن على فِطْرَتهن، ولا تبديل لخَلْق الله، نعم الوَسَاوِس التي تكون لا عن منشأ صحيح لم يعتبرها الشرع أصلاً، ولذا أباح الاغْتِرَاف معاً، لأنَّ الذين يكرهون استعمال السُّؤْر لا يَرَوْن به بأساً، أَلا تَرَى أن من يَكْرَه أن يأكل فَضْل طعامك، لا يَكْرَه أن يكألَ معك، لأنه لا يراه سُؤْراً فالدَّخْل فيه للسُّؤْر دن الوَسَاوِس‏.‏ والمعنى أن لا يُسْئِر الرجلُ الماءَ للمرأة، ولا تُسْئِر هي له، فكما أنك تَكْرَه أن تُسْئِر طعامَك وشرابَك لجبيك، كذلك أراد الشرع أن لا يُسْئِر الزوجان أحدهما للآخر غِسْلَه‏.‏

فهذا الحديث من باب حُسْن الأدب، وسدّ الأوهام، وأول ما انتقل إليه ذِهْني من كلام الطَّحَاوِي، فإِنه بوَّب أولاً بسُؤْر الهرة، ثم بسؤو الكلب، ثم بسُؤْر بني آدم، وأخرج تحته حديث النهي عن اغتسال الرجل بِفَضْل المرأة وبالعكس، فكأنه أشار إلى أن المعنى في هذه الأحاديث هو السُّؤْرِيَّة الإِسْآر، دونَ الوَسَاوِسِ الشهوانية، فللَّه دَرُهُ ما أدقّ نَظَرِه‏.‏

ويدُّلك على قلنا ما أخرجه النسائي عن أمُ سَلَمَة‏:‏ «أنها سُئِلَت‏:‏ أَتَغْتَسِلُ المرأه مع الرجل‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، إذا كانت كَيِّسَة»‏.‏ فأشارت إلى أن الأمر يدور على الكِيَاسة وعدمها، ولَمَّا كان الرجل كَيِّساً لم يُنْه عن استعمال فَضْل وضُوئه، يخلاف النساء، فإِنهنَّ لَسْن كذلك في عامة الأحوال، وإذا كانت كَيِّسَة تَعْرِف طريق آداب الماء وصيانته،، فلها أن تَغْتَسل معه‏.‏

فإِن قُلْتَ‏:‏ إذا كان الأمر كما وَصَغْتَ لِمَ نهى النساء عن اغتسالهنَّ بفَضْل الرجال‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ إن التَّقَاطُرَ في الاغتسال يمكن منهم أيضاً، فإِنَّه استعمالٌ للماء الكثير وغسلٌ لسائر البدن، والأواني كانت مُتَّسِعَة كالمِرْكَن، فيُشْكِلُ فيها التَّحَفُط من الرجال أيضاً، فلذا وَرَدَ فيه النهي للطرفين‏.‏

فإِن قلتَ‏:‏ وحينئذٍ ينبغي أن يُنْهَى الرجل عن الاغتسال بفَضْل الرجل أيضاً، فَلِمَ خصَّصَ به الزوجين مع أن العِلَّة تشملهما‏؟‏ قلتُ‏:‏ لتحقُّق الاغتسال كثيراً بين الزوجين، بخلاف غيرهما، وأراد بالمرأة في حديث التَّوَضُّؤ من كانت في بيته، ولم يقل في المرأتين شيئاً، لأنهن يَفْعَلْنَ ما هو عادتهنَّ‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الأقسام ستة فَضْل الرجل للمرأة، وبالعكس‏.‏ وفَضْل الجنس للجنس، وكلٌّ منه إمَّا في الوُضِوء، أو الغسْل‏.‏ والأحاديث وَرَدَت في الأربعة منها، وإن علَّل المحدِّثون واحداً منها كما مرَّ، ولم يَرِد في الاثنين لِمَا بيَّنَّا‏.‏ وجملة الكلام أن الحديث لا دَخْل فيه للوَسَاوِس الشهوانية، بل وَرَدَ على طبائع الناس في السُّؤْر، فالنَّهي فيه كأمر الغُسْل بِغَسْل الميت، والوُضُوء بحَمْلِه، والمراد بالفَضْل‏:‏ هو الباقي في الآنية، لا كما قاله الخطَّابي، وتَبَعِه الحافظ رحمه الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالحميم‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، ويُتَبَادَرُ من ظاهر عبارته أنهما واقعتان‏:‏ الأولى في استعمال الحَميم، والثانية في استعمال ماء النصرانية، مع أنها واقعةٌ واحدةٌ في مكة حين جاء للحج، فقضى حاجته، ثم طلب الماء وتوضأ بالحَمِيم من بيت نصرانية‏.‏ والظاهر أن الماء إذا كان من بيتها، أنها غَمَسَت فيه يدها أيضاً، ولعلَّه كان من سُؤْرها، ومع ذلك توضّأ ابن عمر منه، فَثَبَتَ أن وُضُوء الرجل بفَضْل المرأة لابأس به‏.‏ وهذا من عادات البخاري حيث يعتبر الاحتمالات القريبة، لأنَّه لمّا شدَّد على نفسه في باب الحديث، وأراد أن يخرِّج المسائل، ويَبْسُط فقهه في تراجمه، فلزمه أن يوسِّع في الإِشارات وطُرُق الاستدلال‏.‏

193- قوله‏:‏ ‏(‏جميعاً‏)‏ قال السِّيرافي‏:‏ إنه يُسْتَعمل بمعنى كلّهم، وبمعنى معاً، والأول يدلّ على الاستغراق، والثاني على المَعِيَّة الزمانية وتفصيله‏:‏ أن هذا اللفظ قد يُسَتْعْمَل للاستغراق وإحاطة الأفراد مع قطع النظر عن الاجتماع، وقد يُسْتَعْمَل للثاني، أي بمعنى الاجتماع والمَعِيَّة، وهو المناسب ههنا، فإن التعرُّض إلى اغتسال الرجال والنساء مطلقاً ليس بأهم، وإنما المفيد بيانُ اغتسالهما معاً‏.‏ ثم أقول‏:‏ والشيء بالشيء يُذْكَر، أن إمامنا رحمه الله تعالى ذهب إلى مقارنة المقتدي مع الإِمام في حميع أفعال الصلاة، واختاره صاحباه أيضاً، إلا في التحريمة والتسليم، والشافعي رحمه الله تعالى ذهب إلى التعقيب في جملة أفعالها غير آمين، وتمسَّك من أحاديث الائتمام، وفيها الفاء‏:‏ «إذا كبر فكبروا‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ، وهي للتَّعقِيب عندهم، فَلزمَ التَّعْقِيب في جميع الأفعال كما أراد‏.‏

قلت‏:‏ وفي «شرح التسهيل»‏:‏ أن في الفاء الجَزَائية قولان‏:‏ التَّعْقِيب، والمقارنة، وحينئذٍ صحَّت الفاء على مذهبنا أيضاً، فلا تنافيها المقارنة الزمانية، فهي للتَّعْقِيب ذاتاً، والمقارنة زماناً عندي‏.‏

ولا بُدَّ أن يكون بين أفعال الإِمام والمأموم تقدُّماً وتأخُّراً ذاتاً، وإنما أراد الإِمام من المقارنة أن يدخل المقتدي في الرُّكن حين يدخل الإِمام، ولا ينتظر بلوغه فيه، فَيْركُ حين يَرْكُع، لا أنه ينتظر الإِمام حتّى إذا أتمَّ راكعاً رَكَع معه‏.‏ ومعلومٌ أن رُكُوعَه لا يكون إلا بعد ركوع إمامه بْعدِيَّة ذاتية، وإن أراد المقارنة، فإن ركوع الإِمام كالعِلَّة لركوعه، وهو المُلْحَظُ في الجماعة عندي، لأن ظاهر أمر الجماعة أن تكونُ حركتهُم واحدةً، وصلاتُهم واحدةً، وقراءتُهم واحدةً، وسنعود، إلى تفصيله في مواضع إن شاى الله تعالى‏.‏

باب‏:‏ صَبِّ النبي صلى الله عليه وسلّم وَضُوءَهُ عَلَى المُغْمَى عَلَيه

ولعله أراد بيان مسألة الماء المستعمل‏.‏

باب‏:‏ الغُسْلِ والوُضُوءِ فِي المِخْضَبِ وَالقَدَحِ وَالخَشَبِ وَالحِجَارَة

باب‏:‏ الوضُوءِ مِنَ التَّوْر

قوله‏:‏ ‏(‏المِخْضَب والقدح‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، هذا في بيان الهيئة‏.‏

قوله‏:‏ «والخشب والحجارة» هذا في بيان مادتهما‏.‏

195- قوله‏:‏ ‏(‏أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وهذا تصريحُ بأنه صلى الله عليه وسلّم جاءه في بيته وتوضَّأ، فكانت هذا واقعةٌ عند عبد الله بن زيد، وفيها تصريحٌ بغسل المرفقين مرتين‏.‏ وأمَّا الغسل إلى الرُّسْغَين فهو ثلاثُ مرارٍ باتفاق الروايات‏.‏

198- قوله‏:‏ ‏(‏اسْتَأْذَنَ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، إما لأن القَسْمَ كان واجباً عليه، أو استحباباً لتطييب قلوبهنَّ‏.‏

198- قوله‏:‏ ‏(‏بين رَجُلَيْن‏)‏، وفي تعيين الرجل الآخر اختلاف، وإنما أُبْهِمَ، لأنهم كانوا يتناوبون الأخذَ بيده الكريمة صلى الله عليه وسلّم تارةً هذا، وتارةً هذا‏:‏ وكان العباس رضي الله عنه أَدَام الأخذ بيده لِمَا له من السن والعمومة، كذا قال النووي‏.‏ وحمله العَيْنِي على تعدّد الوقائع‏.‏

198- قوله‏:‏ ‏(‏سَبْع قِرَب‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وفي كتب السِّير‏:‏ أن تلك السَّبْع كانت من الآبار السَّبْع، ولعلّ تعدّد السبع وعدم الحل دخلا في الشفاء، كما يكون مثل هذه الشرائط في باب العملياتِ والتعويذاتِ كثيراً‏.‏

198- قوله‏:‏ ‏(‏ثم خرج إلى الناس‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وخروجه هذا إنما هو في العشاء عندي‏.‏

ذِكْرُ عدد صلواته صلى الله عليه وسلّم في مرض موته، وخروجه إلى المسجد

وتحقيقه على خلاف ما اختاره الحافظ ابن حَجَر رحمه الله تعالى

واعلم أنَّ الروايات في غَيْبُوبته صلى الله عليه وسلّم في مرضه عن المسجد مختلفةٌ‏:‏ فعند البخاري أنَّه غاب ثلاثة أيام، واختاره البيهقي وتَبِعَه في ذلك الزَّيْلَعِي‏.‏ وعند مسلم أنَّه غاب خمسة أيام، واختاره الحافظ‏.‏

قلت‏:‏ ولعلّ الحافظ رحمه الله تعالى عدّ الكُسُور أيضاً، ولعلّ ابتداءَ الغَيْبة عنده يكون من ليلة الخميس، وحينئذٍ لو اعتبرنا ذلك اليوم مع يوم الاثنين حصل الخَمْس، ومَنْ قال بثلاثة أيام، اعتبر اليوم التام، فارتفع الخلاف‏.‏

ثم إنَّهم اتفقوا على أنَّه خرج في صلاة من تلك الأيام، ولعلّه ظُهْر السبت أو الأحد، لأنَّ الغَيْبة لمّا كانت من عشاء الخميس على ما اختاره الحافظ، فلا يُمكِنُ أن يكون ظُهْر هذا اليوم، ولا من يوم الجمعة، وتُوْفِّي يوم الإثنين، فتعيَّن أن يكون إما ظُهْر السبت أو الأحد‏.‏ والعجب من الحافط حيث جَعَلَ قدوتَه فيه الإِمام الشَّافعيّ رحمه الله تعالى، مع أنَّ الإِمام رحمه الله تعالى وإن اختار شركته في صلاةٍ واحدةٍ، إلاّ أنَّه ذَهَبَ إلى أنَّها الفجر، بخلاف الحافظ، فإِنَّه اختار أنَّها الظُّهْر‏.‏

أقول‏:‏ والذي تبيّن لي‏:‏ هو أنَّه صلى الله عليه وسلّم دَخَلَ في أربع صلوات بعد، الغَيْبُوبة‏:‏

الأولى‏:‏ العشاء التي غُشِيَ عليه في ليلتها- كما في رواية الباب- فإِنَّه لم يستطع أولاً أن يَخْرُج، ثم وجد في نفسه خِفَّة، وخرج إليها وصلَّى بهم وخطب النَّاس، كما عند البخاري، وفيه‏:‏ قالت وخَرَجَ إلى النَّاس فصلّى لهم وخَطَبهم‏.‏ وأَوَّله الحافظ رحمه الله تعالى، وقال معناه‏:‏ إنه أراد الخروج، ثم يَقْدِر عليه‏.‏

والثانية‏:‏ الظُّهْر من أي يوم كانت، وأَقَرَّ بها الحافظُ رحمه الله تعالى أيضاً‏.‏

والثالثة‏:‏ المغرب كما هو عند الترمذي في باب القراءة بعد المغرب، عن أمّ الفَضْل قالت‏:‏ «خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو عاصبٌ رأسه في مرضه، فصلَّى المغرب، فقرأ ب‏:‏المرسلات، فما صلاّها بعد حتى لَقِيَ الله عزّ وجلّ‏.‏ وهو عند النَّسائي أيضاً، وأوَّله الحافظ بأنَّه خرج من مكانه إلى موضع في بيته، لا أنه خرج إلى المسجد‏.‏

والرابعة‏:‏ الفجر من اليوم الذي تُوُفِّي فيه كما في «مغازي موسى بن عُقْبَة»، وهو تابعي صغير السِّن، وأقرَّ بها البيهقي أيضاً، ودخل فيها في الركعة الثانية، وصَلاها خلف أبي بكر رضي الله عنه‏.‏ نعم، ظاهر البخاري خلافه، إلاّ أني جَمَعْتُ بينهما بأنه اقتدى من حُجْرَته، ولم يَخْرُج إلى المسجد‏.‏

فهذه أربع صلوات دخل فيها النبي صلى الله عليه وسلّم بعد غَيْبُوبته عن المسجد، ولم أَجِد شَرَكَته في العصر في يوم، وكذا لم أَجِد الترتيب في تلك الصَّلاة‏.‏ وأقرَّ الترمذي أنه صلّى في مرض وفاته ثلاث صلوات، وزِدْتُ عليه رابعة، وهي المغرب‏.‏

وفي العَيْنِي‏:‏ أنه ذهب جماعةٌ إلى القول بتعدّد الصلوات حتى نُقِل عن الضِّيَاء، وابن ناصر، وابن حِبَّان‏:‏ أنَّ من أنكر تعدّد خروجه صلى الله عليه وسلّم إلى الصَّلاة، فإِنَّه جاهلٌ عن الحديث‏.‏

ثم اعلم أني بالغت في هذا التفتيش، لأنه يُفِيدُنا في مسألةِ القراءةِ خلفَ الإِمام، لأنه ثَبَتَ عند الطَّحَاوي خروجُه في صلاة جَهْرِيَّة، وأخذ القراءةَ من حيث تَركَها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وحينئذٍ لا بُدَّ أن تَفُوتَه الفاتحة، كلُّها أَو بعضُها، فلو كانت رُكْناً لَزم أن لا تتِمّ صلاته صلى الله عليه وسلّم والعياذ بالله، فهذه آخره صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلّم كانت مُسْتَدَلاً للحنفية، ولم يَشْعُر به أحدٌ منهم غير ابن سيِّد الناس في «شرح الترمذي»، إلاّ أنه لم يُجِب عنه‏.‏

وعَرَضَ للحافظ رحمه الله تعالى إشكالٌ آخر، وهو‏:‏ أنَّ الصَّلاة التي خَرَج إليها النبيّ صلى الله عليه وسلّم هي الظُّهْر عنده، فكيف أخذَ القراءةَ من حيث تَرَكَها أبو بكرَ رضِي الله تعالى عنه‏؟‏ فالتزم أنَّ أبا بكر رضي الله تعالى عنه لعلّه جَهَر بآيةٍ منها‏.‏ وأمَّا على ما اخْتَرْتُ، فلا حاجة إلى هذا التأويل، فإِنه ثَبَتَ خروجُه إلى العشاء أيضاً، وهي جَهْرِيَّة‏.‏

ولفظ الطَّحَاوِي في قصة مرض موته‏:‏ «وجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من نفسه خِفَّةً، فخرج يُهَادَى بين رجلين، فلمَّا أحسَّ أبو بكر، سَّبحوا به، فذهب أبو بكر يتأخَّر، فأشار إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم مكانك، فاسْتَتَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من حيث انتهى أبو بكر من القراءة»، ورواه ابن ماجه، والدَّارقّطِنيِّ، وأحمد في «مسنده»، وابن الجَارُود في «المُنْتَقى»، وأبو يَعْلَى في «مسنده»، والطَّبَرِي في «تاريخه»، وابن سعد في «الطبقات»، والبَزَّار في «مسنده»‏.‏

وإذ قد عَلِمْتَ أنَّه خَرَج في أربع صلواتٍ، منها الفجر والمغرب، أَمْكَن لنا أَنْ نقول‏:‏ إنَّ ما عند الطَّحَاوِي قصةٌ في إحدى هاتين الصَّلاتين، وأخذ فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم القراءةُ من حيث تركها أبو بكر رَضِي الله تعالى عنه، ولم يُدْرِك الفاتحةَ كلَّها أو بعضَها، ثم صحَّت صلاته، وحُسِبَت قراءة أبي بكر رَضِيَ الله تعالى عنه عن قراءته، فلو كانت الفاتحة ركناً لا تصحَّ الصَّلاة بدونها، فأين ذَهَبْتَ من صلاة النبي صلى الله عليه وسلّم هذه‏؟‏ وقد بَسَطْتُ فيه الكلام في رسالتي بالفارسية المسماة ب«خاتمة الخطاب في فاتحة الكتاب»‏.‏

ومرَّ الحافظ على رواية ابن ماجه هذه- وهي عند الطَّحَاوي أيضاً- فَحَكَمَ عليها بالحُسْن، وحَكَمْتُ عليها بالصحة، وعَزَوْتُها إلى الحافظ رحمه الله تعالى، فاعترض عليَّ بعضُ المُدَّعِين بالعمل بالحديث‏:‏ أنه خلافُ الواقع، فإن الحافظ رحمه الله تعالى لم يَحْكُم عليه بالصحة، فأَجَبْتُ له‏:‏ أن الحافظ رحمه الله تعالى مرَّ عليها في موضعين، فحكم بالحُسْنِ في المجلد الثاني، وبالصحة في المجلد السادس‏.‏

باب‏:‏ الوُضُوءِ بالمُد

واعلم أنهم اتفقوا على أنَّ الصَّاع أربعة أَمْدَاد، واختلفوا في تقدير لمُدِّ‏:‏ فقال العِرَاقِيُون‏:‏ إِنَّ المُدَّ رَطْلان، وقال الحِجَازِيُون‏:‏ إنَّه رَطْلٌ وثُلُث‏.‏ وعلى هذا يكون الصَّاعُ ثمانية أَرْطَالٍ عند العِرَاقِيين، وخمسةُ أَرْطَالٍ وثُلُث عند الحِجَازِيين‏.‏

قلت‏:‏ ولا يمكن لأحدٍ أن يُنْكِرَ صَاعَ العِرَاقِيين، فإِنَّه كان مُسْتَعْمَلاً في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قَطْعاً، لِمَا رُوِيَ من غير وجهٍ‏:‏ «أنه كان يتوضأ بالمُدِّ»‏.‏ ثم أَخْرَج أبو داود عن أنس قال‏:‏ «كان النبيِّ صلى الله عليه وسلّم يتوضَّأ بإِناءٍ يسع رَطلين»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وفيه شَرِيك، وأَخْرَجَ عنه مسلم، وعند النَّسَائِي عن موسى الجُهَنِي قال‏:‏ «أتى مُجَاهِد بقَدَحٍ حَزَرْتُه ثمانية أرْطَالٍ، فقال‏:‏ حدَّثني عائشة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يَغْتَسِلُ بمثل هذا»‏.‏ وعند الطحاوي عن إبراهيم قال‏:‏ «قدَّرْنا صاعَ عُمر، فوجدناه حَجَّاجِيّاً»، والحَجَّاجِيّ عندهم‏:‏ ثمانية أرْطَال‏.‏

والحافظ لمَّا مرَّ على صاعنا سمّاه حَجَّاجِيّاً، ولم يُسَمِّهِ فَارُوقِيّاً، مع أنَّ الحجَّاج إنما صَنَعَ صاعَهُ على صاع عمر، وكان يَفْتَخِرُ عليهم بذلك، وهو صاع عمر بن عبد العزيز أيضاً، فأصله عن عمر رضي الله عنه، والحَجَّاج شَهَرَه لا أنه صنعه هو‏.‏ ومنهم مَنْ أَرَادَ من كونِه عُمَريَّاً عمر بن عبد العزيز، وهو أيضاً عُدُولٌ عن الصواب‏.‏ فإِن صاعَنا ثَبَتَ في عهده صلى الله عليه وسلّم ثبوتاً لا مردَّ له‏.‏

وفي الباب روايات أُخْرَىَ تدلُّ على مذهبنا، إلاّ أنَّا لم نُرِدْ اشتيعابها، لأنَّه لا يسع لأحدٍ أن يُنْكِر على صاع الحنفية، وأقرَّ به ابن تيمية رحمه الله تعالى، إلاّ أنه قال‏:‏ إنَّ الصَّاعَ في الوضوء والغُسْل ثمانية أَرْطَال، وفي صدقة الفِطْر خمسة أَرْطَال وثُلُث‏.‏ ونحن نقول‏:‏ إنَّ الاحتياط أن يؤخذ في جميع المواضع بثمانية أرْطَال‏.‏

ثم اعلم أنَّه أخرج ابن حِبَّان في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ «أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم قيل له‏:‏ إِنَّ صاعنا أصغر الصِيعَان، ومُدَّنا أكبر الأَمْدَاد فقال‏:‏ اللهم بارك لنا في صاعنا، وبارك في مُدِّنا»، ولا يبدو في بادي النظر مَحَطُّ سؤالهم، فإِنَّ كون الصَّاع صغيراً، والمُدّ كبيراً لا يظهر فيه معنى الشِّكَاية‏.‏ وكنت متردداً في مراده حتى رأيت عبارة في «موطأ مالك» رحمه الله تعالى في الظِّهِار، انكشف بها المراد، وأخذت منه أَنَّ المُدَّ عندهم كان باعتبار طعام رجلٍ واحدٍ، وكان مِكْيَالُهم لطعامهم وشرابهم مُستْعمَلاً فيما بينهم في التجارات‏.‏ وفي المقدار الكثير يطبخون الطعام كَيْلاً في زماننا أيضاً، وحينئذٍ حاصل سؤالهم‏:‏ أن المُدَّ الذي نستعمله في البيوت في طعامنا كبيرٌ، والصاع الذي في التجارات صغيرٌ، فكأنهم شَكُوا من كثرة المصارف وقلة المال، فدعا لهم‏:‏ «اللهم بارك لنا‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ‏.‏ وحملوه على البركة المعنوية، وحَمَلْتُه على البركة الحِسِّيَة أيضاً، حيث صار ثمانية أرْطَال في زمن عمر رضي الله عنه مع بقاء اسمه، ولعلّه زاد ثمنه، فبقاء الاسم والثمن مع زيادة الوزن هو ثمرةُ دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم فصاعنا من ثمرات دعائه صلى الله عليه وسلّم

وأمَّا وجه رَوَاجه في زمن عمر رضي الله عنه دون زمنه صلى الله عليه وسلّم فَوُفور الأشياء في زمن عمر رضي الله عنه، بخلاف زمن النبي صلى الله عليه وسلّم

ويُسْتَفَاد مِنْ هذا الحديث تعدّد الصِيعَان في عهد النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كما قلت‏:‏ إنَّ صَاع العِرَاقيين والحِجَازيين كلاهما كانا في زمنه صلى الله عليه وسلّم وإنْ كان أحدهما أقل استعمالاً من الآخر، على أنه يَنْهَدِم منه أصل المقدمة المتفق عليها أيضاً، لأنه يدلُ على أنَّ المُدَّ ليس رُبْع الصَّاع، فاختلفت الأَمْدَاد أيضاً، وحينئذٍ لا يكون أكبر الأَمْدَاد رُبْع أصغر الصِيعَان، ثم «الصُّوَاع» في سورة يوسف والصَّاع واحدٌ، مع أن الصُّوَاع أكبر من صاع الشافعية‏.‏ وفي «الفنجاب»‏:‏ مِكَيالٌ يُقَال له جها وظنّي أنَّه من الصَّاع مكيال آخر كروه، ولعلَّه من الكُرِّ‏.‏ وليُعْلَم أن الناس إنما تحيَّروا في معرفة مقادير هذه المكاييل لفُقدانها في زماننا، وانقطاع العمل عمّا كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم فتعلَّلنا عنها بالاسم فقط، وهذا هو الحال في جميع الأشياء التي لا توجد بين الناس‏.‏

وقد تصدَّى صاحب «القاموس» لبيان تعداده، فقال‏:‏ إنَّ المُدَّ مكيالٌ يسع حَثْيَة من حَثْيَة الرجل المتوسط، والصَّاع ما يَسَع أربع حَثَيَات كذلك‏.‏

قلت‏:‏ ولو كان المقصودُ بيان استقامة الحساب على مذهب الشافعية، فإِنَّه يستقيمُ على مذهب الحنفية أيضاً، فإِنَّ صاعهم إن كان يتمّ بأربع حَثَيَات، فصاعنا يتمّ بستة حَثَيَات‏.‏

وصاحب «القاموس» كما أنَّه لغوي كذلك حافظٌ للحديث أيضاً، وقد سَمِع مرّة أربع مئة سطر، فَوَعاها من ساعته‏.‏ وقد صنَّف «القاموس» في اليمن، وهو شافعي، ومعتقدٌ لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، إلاّ أنه قد يتجاوزُ عن الحد في حماية مذهبه، وله رسالة بالفارسية سمَّاها‏:‏ «نور سعادت»، وأتى فيها برواياتٍ لا أصل لها عند المحدِّثين، وهكذا قد يذكر لتأييد مذهبه أسماء الصحابة ولا يكون له أصلٌ، ولا يكون مقصوده منه إلاّ تكثير السواد، كما فعله في مسألة رفع السَّبِّابة، فإِنَّه لم يثبت عمَّا ذكره من عدد الصحابة قط‏.‏ وهكذا فعل في رفع اليدين، فقد عدّ فيه جِماعاتٍ كثيرةً‏.‏ مع أنه خلاف الواقع، كما سنحقِّقه في بابه إن شاء الله تعالى‏.‏

ولنا أحاديث عندالطَّحَاوي، وأبي داود، والنَّسائي، وقد مرَّ أن النَّسائي أذكى من مسلم، وأمَّا أبو داود، فهو حنبلي راوٍ لفِقه الإِمام أحمد رحمه الله تعالى، كمحمد وأبي يوسف لفقه الحنفية، ومَنْ عدَّه من الشافعية، فكأنَّه لم يقصد به إلاّ تكثيرَ السواد، ولا ريب أنَّه حنبلي فاعلمه‏.‏

ثم اعلم أنَّ ابن جَبْر هذا الذي في إسناد البخاري، هو الذي يفسِّر المُدّ‏:‏ أنه رطلان عند أبي داود، ولم يُرْوَ في تحديد الماء في الوضوء عن الأئمة شيء، غير أَنَّه يتوضّأ وضوءاً بن الوضوءين، ووقَّته محمد رحمه الله هنا بالمُدِّ تبعاً للحديث، والحافظ رحمه الله تعالى لم يذكر اسمه، وضرب عنه كَشْحاً، وأغمض عنه، وأمَّا خمسة أمْدَاد في الغُسْل، فقيل‏:‏ المُدِّ للوضوء، وأربعة أمْدَاد للغْسْل‏.‏ وقيل هو للغُسْل إلاّ أنه إذا أراد الماء من الصَّاع فإِلى خمسة أمْدَاد‏.‏

وقدَّره علماء الهِنْد أنه مئتان وسبعون «تولجة» وكتب فيه ابن حَزْم شيئاً في «المُحَلى»، وظنِّي أنَّه خلاف الواقع‏.‏ وفي الأوزانِ رسالةٌ ‏(‏للملامبين‏)‏، ولكنَّها نادرة، ورسالةٌ أخرى للمخدوم هاشم السِّنْدِهي، ورأيتها فوجدت فيها مثل ذلك‏.‏ وسها مولانا عبد الحي رحمه الله تعالى في حساب نِصَاب الفضة والذهب، ووجهه أنَّه اعتبر بالأحمر ما هو عند الأطباء، وهو أربع شعيرات، وفي الخارج هي قريب من ثلاث شعيرات، وما حقَّق القاضي ثناء الله الفاني فتى رحمه الله تعالى فيه وهو الصحيح‏.‏ قال الشيخ السِّنْدِي في بيان وزن الصَّاع‏:‏

صاع كوفي هست أي مرد فيهم *** ذو صد هفتاد توله مستقيم

باز ديناري كه دارد اعتبار *** وزآن از ماشه دان نيم وجهار وقد أضفت إليهما بيتين آخرين فقلت‏:‏

درهم شرعي أزين مسكني شنو *** كان سه ماشه هست يك سرخه دو جو

سرخه سه جوهست ليكن باوكم *** هشت سرخه ماشه أي صاحب كرم

باب‏:‏ المَسْحِ عَلَى الخُفَّين

وراجع لتعريف الخُفّ «الكبيري»، ويُشْتَرط عندهم أَنْ يكون بحيث يمكن فيه تتابع المشي، ولذا يستعملون في الإِبل الأخفاف، لأَنَّ الخُفَّ عندهم اسمٌ لِمَا يمكن فيه قطع المسافة وليست ترجمته موزة، بل هو خلاف المراد، لأنَّه لا يظهر منه هذا المعنى‏.‏

202- قوله‏:‏ ‏(‏وإِنَّ عبد الله بن عمر سأل‏)‏، قيل‏:‏ وجه السؤال أنَّه كان يعرفُ المسحَ في السفر، فسأل عن حالِ الإِقامة في البيوت أيضاً‏.‏

قلت‏:‏ ولا حاجةَ إلى هذا التأويل أيضاً، فإنَّ أمورِالدين تُعْرَف شيئاً فشيئاً، ومعلوم أنه لم يكن عندهم المدارس يتدرَّسُون فيها المسائل، بل كانوا يتعلَّمون المسائل بحسب الحاجات والواقعات‏.‏ ثم لا يخفى عليك أن ابن عمر رَضِيَ الله عنه هذا الذي يسأل عن المسح، هو حامل لواء رفع اليدين، مع أنه لم يَثَّبُت عن الخلفاء الثلاثة‏.‏

واعل أنَّه لا ذكر في حديث المُغِيرَة للجَوْرَبَيْنِ والنَّعْلَين أصلاً، وهو وهمٌ قطعاً، فإِنَّ هذه الواقعة قد رُوِيَت في نحو سبعين طريقاً، ولا يذكر أحدٌ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم مسح فيها على الجَوْرَبَيْنِ والنَّعْلَيْن‏.‏ فما أخرجه الترمذي وهمٌ قطعاً، وإنما صحَّحه نظراً إلى صورة الإِسناد فقط‏.‏

205- قوله‏:‏ ‏(‏يمسح على عِمَامته‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وبظاهره أخذ أحمد رحمه الله تعالى، واختار أنَّ الفريضة تتأدى بالمسح عليها بشرط أنَّ تكون مُحَنَّكةَ، وشرائطها شرائط الخُفّ‏.‏ وجزم الشافعي رحمه الله تعالى‏:‏ أنَّه لو مسح على بعض الرأس والعِمَامة، خرج عن عهدة الاستيعاب، وهكذا قال الماليكة، إلاّ أنَّ القاضي أبو بكر بن العَرَبي منهم قال‏:‏ إِنَّ القدر المستحب لا يَتَأَدَّى عندهم بالمسح عليها‏.‏ ومذهب الحنفية أنَّه غير مُعْتَبَرٌ، وفي «الموطأ»‏:‏ بلغنا أنه كان ثُمَّ تُرِكَ، ولذا وقع في بعض عباراتهم أنه بِدْعة عندنا‏.‏ ومرَّ أبو عمرو في «التمهيد» على أحاديث المسح على العِمَامة، وحكم عليها بأنَّها مْعلُولة كلها‏.‏ وقال ابن بَطَّال‏:‏ الأصِيلي‏:‏ ذِكْر العِمَامة في هذا الحديث من خطأ الأوْزَاعي‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وله مُتَابعات أيضاً، وإن سلَّمنا تفرُّدَه، فإِنَّه لعلو كَعْبه، وجلالة قدره لا يوجبُ الإِعلال أيضاً، وأظنُّ أنَّ هذه واقعة عمرو بن الضَّمْرِي واقعة الخَضَر، والله تعالى أعلم‏.‏

قلت‏:‏ والبخاري وإن أخرج حديث المسح على العِمَامة، إلا أنَّه لم يُتَرْجِم عليه بهذه المسألة، فدلّ على ضعفٍ فيه، لأنَّه تحقَّق عندي من عاداتِه أنَّ الحديث إذا كان قوياً عنده، ويكون فيه لفظ يتردَّد فيه النظرد يخرِّجه في كتابه، ولا يُتَرْجِم على ذلك اللفظ، ولا يخرِّج منه مسألة‏.‏ فصنيعه هذا في المسح على العِمَامة يدلَّ على تردّد عنده فيه، ولذا تركه ولم يذهب إليه، والله تعالى أعلم‏.‏

وأجاب عنه بعض الحنفية‏:‏ أنه سوّى عِمَامته بعد المسح، وظنَّه الرَّواي مسحاً، فعبَّر عن التسوية بالمسح على العِمَامة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الجواب ليس بمرضيًّ عندي، لأنه يُفْضِي إلى تغليط الصحابي الذي شاهد الواقع وحكي عنه كما رأى، ومعلومٌ أَنَّهم من أذكياء الأمة، كيف يُمكِن أن يَخْفَى عليهم الفرق بين المسح والتسوية‏؟‏ وهذا الجواب في الأصل للقاضي أبي بكر بن العربي، وليس مراده ما فُهِمَ، ولفظه‏:‏ إن المسح على العِمَامة لم يكن عن نصٍ، وإنَّما اختصر على مسح بعض الرأس وإمرار اليد عليها تَبَعاً لمسح البعض، كما نشاهد البعض إذا مسح على البعض وكان على الرأس عِمَامة»‏.‏

وحاصله‏:‏ أنَّ المسح على الرأس كان أصلاً، وعلى العِمَامة تَبَعاً، وهو الذي أراده الرَّاوي، أي أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم فعله على الرأس قصداً، ومسح على العِمَامة أيضاً، إلاّ أنَّه لم يفعله قصداً، بل وقع تَبَعاً، فمعنى التَّبَع‏:‏ بلا قصدٍ، لا أنه كان في الحقيقة تسويته، وظنَّه الرَّاوي مسحاً، فإنَّه يوُجِبُ تغليط الراوي، وكم من فرق بينهما‏؟‏ وحاصل جواب القاضي على ما قرَّرت‏:‏ أنَّ الرَّاوي ذكر المسح على العِمَامة كما وقع في الخارج، وإذا كان مَسَحَ بلا قصدٍ، فنقله أيضاً كذلك، وليس فيه تغليطٌ له بل فيه تصويبٌ، فادر الفرق بينهما، ولا تتعصب، فإِنَّ من العصبية لجهلاً‏.‏

وقد يُجَاب‏.‏ أنَّ معناه أنه لم يمسح على العِمَامة، بل مسح على الرأس حال كون العِمَامة على الرأس، وحينئذٍ غرضُ الرَّاوي بيان طريق المسح حين التَّعَمُّم، كما تعرَّض إليه في حديث أبي داود‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلّم مسح على رأسه ولم ينقض العِمَامة»‏.‏

وقوله‏:‏ «مسح على العمامة» متحملٌ لهذا المراد عُرْفاً وعربية‏.‏

والحق عندي أنَّ المسحَ على العِمَامة ثابتٌ في الأحاديث، كيف لا‏؟‏ وقد ذهب إليه الأئمة الثلاثة رَضِي الله عنهم، ولو لم يكن له أصلٌ في الدين لَمَا اختاروه البتة‏.‏ وإني لَسْتُ ممن يأخذون الدين من الألفاظ، بل أَوْلى الأمور عندي تَوَارّث الأمة، واختيار الأئمة، فإنَّهم هُدَاة الدين وأعلامه، ولم يَصِل الدين إلينا إلا نهم، فعليهم الاعتماد في هذا الباب، فلا نُسِيّء بهم الظن، ولا نقول‏:‏ إنَّ المسحَ على العِمَامة لم يَثْبُت في الدين، ومع ذلك ذهبوا إليه، ولذا لم يقل محمد رضي الله عنه‏:‏ إنَّ المسحَ على العِمَامة لم يَثْبُت، ولكنَّه قال‏:‏ إِنَّه كان ثُمَّ نُسِخَ‏.‏ ومعنى النَّسخ قد علمته في المقدمة، فَرَاجِعه، فإِنَّه مهمٌ، وقد غَفَل عنه كثير من الناس، ولا يَرَوْن النسخ إِلا ما اشتهر عندهم، مع أنَّ النسخ في السلف أعمِّ منه، ولذا لا أجترىء على أَنْ أقول‏:‏ أنه بدعة كما يُتَبَادر من بعض الكتب، بل هو مباحٌ كما صرّح به الرَّازِي منا في «أحكام القرآن»‏.‏

وكان مولانا شيخ الهِنْد يقول بأداء الاستحباب منه، وإن لم يكتبوه في الكتب، قلت‏:‏ بل ينبغي أن يلتزم أداة الاستحباب منه، لأن الإِباحة تُفِيدُ لو كان المسح على العِمَامة من باب العادات، وأمّا إذا كان سنة قَصْدِيّة، فلا بُدَّ أن يُقَال بأداء سُنَّة التكميل منه‏.‏

والأحاديث في المسح على العِمَامة على أنحاءٍ‏:‏ في بعضها ذكر العِمَامة فقط، وفي بعضها ذكر العِمَامة والرأس كليهما، وفي بعضها ذكر الرأس فقط‏.‏ وقد جاء حديث المُغِيرَة على الطرق الثلاثة، فدلَّ على أنَّه لم يَمْسَح على العِمَامة في تلك الواقعة، إلاّ وقد أدّى القدر المجزيء على الرأس، ثم تفنَّن الراوي في بيانه، فاقتصر تارةً على ذكر المسح على الرأس، وأخرى على العِمَامة، وإذا أوعب القصة ذكرهما، فإِذا وجدنا في هذا الحديث ذكر مسح العِمَامة مكان المسح على الرأس تارةً، وبالعكس تارةً، وجمعهما الرَّاوي تارةً، يَسْبِقُ الذهن منه أن يكون في الأحاديث الأُخُر التي فيها ذكر المسح على العِمَامة فقط أيضاً كذلك، فما دام لا يَثْبُت أنه مسح على العِمَامة ولم يمسح معها على الرأس، لا تقوم الأحاديث المُجْمَلة في هذا الباب حُجَّة للحنابلة، لاحتمال أن يكون الأمر فيها أيضاً كما في حديث المُغِيرَة‏.‏

ويمكن عندي أَنْ يكونَ المسح على العِمَامة في الوضوء على الوضوء، فإِنَّه قد ثَبَتَ الوضوء عندي على أنحاءٍ كما مرّ من قبل، وإن أنكرها ابن تَيِمْيَة‏.‏ وثَبَتَ الاقتصار على بعض أعضاء الوضوء وعلى المسح في بعض أنحاء الوضوء، وعلى هذا يمكن عندي أن يكون هذا أيضاً نوعاً من الوضوء‏.‏ وتبيَّن لي بعد تَتَبُّع الطرق أن هذه الواقعة والتي تليها في الباب الآتي واحدةٌ «قال‏:‏ أخبرني عمرو بن أُمَيَّة‏:‏ أن أباه أخبره‏:‏ أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يَحْتَزُّ من كَتِف شاةٍ، فَدُعِي إلى الصَّلاة، فألقى السِّكِّين، ولم يتوضَّأ»، وواقعة الباب أيضاً يرويها عمرو بن أُمَيَّة، عن أبيه، فإِن كانت تلك واحدة كما هو المُتَبَادَر عندي بعد جمع طرقها، فالأقرب فيها أنه لم يتوضّأ فيها وضوأً كاملاً، ولكنه اكتفى بالمسح على العِمَامة والخُفِّين، وحينئذٍ، فليكن هذا أيضاً نوعاً من الوضوء‏.‏

باب‏:‏ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَيهِ وَهُمَا طاهِرَتَان

أراد به أن يُتَرجِّم بلفظ الحديث، ولم يُشِر إلى تحقيق المسألة‏:‏ بأن الطهارة شرطٌ عند اللُّبْس أو عند الحدث، فإنَّه من مراحل الاجتهاد، ويجري السَّرْحَان في الحديث، ولو كان المصنِّف رحمه الله تعالى أراد أن يُشِير إلى هذه المسألة، لغيَّر لفظ الحديث شيئاً يمكن أن يَنْتَقِل إليه ذهن الناظر‏.‏

باب‏:‏ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ والسَّوِيق

دخل في مسألة الوُضُوء ممّا مَسَّت النار، واخْتَار مذهب الجمهور من عدم إيجاب الوُضُوء منه، وهو مذهب الأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين، وقد وَرَدَ في الأحاديث الوُضُوء منه أيضاً، فقال بعضهم‏:‏ إنه منسوخٌ لِمَا عند أبي داود عن جابر رَضِيَ الله عنه‏:‏ «كان آخر الأَمْرَيْن من رسول الله صلى الله عليه وسلّم تَرْك الوُضُوء ممّا غيَّرت النار»‏.‏ وزَعَمُوه صريحاً في النسخ‏.‏

قلت‏:‏ لم يُرِد به جابر رضي الله عنه بيانَ النَّسخ، إِنَّما أشار إلى ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلّم الوُضُوء، وتَرْكه في يوم واحدٍ، حيث قال‏:‏ «قَرَّبْتُ للنبي صلى الله عليه وسلّم خبزاً ولحماً، فأكل، ثم دعا بوَضُوء فتوضَّأ به- فهذا هو الأمر الأول- ثم صلَّى الظُّهر، ثم دعا بفَضْل طعامه فأكل،ثم قام إلى الصَّلاة ولم يتوضَّأ»- وهو الأمر الآخر- فبيَّن جابر رضي الله عنه أنه توضَّأ منه، ولم يتوضَّأ أيضاً، والذي كان منهما آخراً هو عدم الوضوء، وإليه أشار أبو داود حيث قال بعد نقل حديث جابر الأول‏:‏ «كان آخر الأمْرَين‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ، قال أبو داود‏:‏ هذا اختصار من الحديث الأول، فإِذن لا يريد بيان النسخ، أي أن الوُضُوء منه كان، ثم تُرِك، فكان آخر الأَمْرَين بهذا الطريق، بل أراد من الأَمْرَين الواقعتين كما ذكرهما هو قبله، ولا يَكْفِي للنسخ مجرد كونه آخراً، لأن ما يكون مُسْتَحَبّاً يَرِد فيه الفعل وتركه لا محالة، فلو كان ترك الوُضُوء آخراً بهذا الطريق، لَمَا كان فيه دليلاً على النسخ أصلاً‏.‏

واختار الشَّاه ولي الله رحمه الله تعالى‏:‏ أنه مُسْتَحبٌّ، وأزيد عليه شيئاً، فأقول‏:‏ إنه مُسْتَحَبُّ الخَوَاصِّ دون العَوَامِّ، ومُسْتَحَبُّ الخَوَاصِّ هو ما يكون مُسْتَحَبّاً لأجل المعنى‏.‏ فالمُسْتَحَبٌّ على نحوين‏:‏ مُسْتَحَبٌّ لأجل الصورة، وهو الذي وَرَدَ الشرع باستحبابه، وهو الدائر في الفقه، ومُسْتَحَبٌّ لأجل المعنى، وهو ما يكون فيه إيمااءٌ إلى الفائدة فيه، ولم يَردِ الشرع باستحبابه صراحةً، ولمَّا أومأ إلى فوائد فيه، عَلِمنا أَنَّه مطلوبٌ، فقلنا‏:‏ إنه مُسْتَحَبٌّ لأجل المعنى الموجب للاستحباب، وإن لم يكن من جهة الصورة‏.‏ وليس هذا النوع من وظيفة الفقهاء، وأَسَمِّيْه مُسْتَحَبَّ خَوَاصِّ الأمة، كالوضوء للجُنُب، فإِنه أشار الشرع إلى معنى فيه، لما في «معجم الطبراني» في جُنُبٍ ينام ويموت‏:‏ «إن الملائكة لا تَحْضُر جِنَازته»‏.‏ وبالوُضُوء تَنْدَفع هذه المَضَرَّة، فهذا المعنى أوجب القول باستحبابه‏.‏

ومن هذا الباب‏:‏ الوُضُور من مَسِّ الذَّكَر، ومس المرأة ولحوم الإِبل عندي‏.‏ فأقول‏:‏ إن الوضُوءَ مُسْتَحَبٌّ في جميعها، إلاّ أنَّه مُسْتَحَبُّ الخَوَاصِّ، ولا بُعْدَ فيه، فإن فقهاءنا أَوْجَبُوا الوُضُوء بأقلُ من هذه الأشياء، كالنظر إلى الأجنبية والغيبة مثلاً، فلو إلتزمنا الوُضُوء من مَسِّ الذكر والمرأة وغيرها الذي هو أفحش منه، لَمَا كان فيه بأسٌ، ولا خلاف للمذهب‏.‏

أمَّا معنى «فيما مَسِّت النار»‏:‏ فإنَّ الملائكة لهم تُبَاعِد وتُنَافِر عن الأكل والشرب بطباعهم الزكية، ومن أكل أو شرب المطبوخ الذي تَدَنَّسٍ بصنعهم ونَضَّجَتْهُ أيديهم، فكأنه وقع على بُعْدٍ بعيد من طَبْعهم، فلعلّ الشرع أمر بالوُضُوء منه تلافياً لهذا البُعْدِ، أمّا اليانع على الشجرد فإِنه بمَعْزِلٍ عن النظر، لأنه حديث عَهْدٍ بربه، وبركة من الله‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يضع البَاكُورَة على عينيه، ويعطيه أصغر الولدان، وأمّا المطبوخ، فقد مَسَّته النار، ولَحِقَتْهُ صَنْعَة، البشر، وغيرَّته عمّا نزل إليهم، فمَحَقَت بركته، وبدَّلت قُرْب عهده بالبُعْد، ودَنَّسَتْهُ بأدناس البشر، فشأنه لا يكون شأن الثمر، فإِنه قد عُلِمَ من شأنه صلى الله عليه وسلّم أنه كان يَتَبَادر إلى ماء المطر، ويقوم فيه قائلاً‏:‏ «إِنه حديثُ عهدٍ بربهٍ»‏.‏ ولم يكن يفعل مثله بسائر المياه، لأن هذا الماء بعد استقراره في حفرة أو بِرْكة تلطَّخ بأنواع الأدناس، ولن يبقَ على صفة حَدَاثة العهد‏.‏

فالحاصل‏:‏ أن الوضوء من هذه الأشياء ليس كالوضوء من الأحداث والأنجاس، بل من باب التشبُّه بالملائكة والتقرُّب إليهم‏.‏

ولَمّا اختار المُصَنِّف رحمه الله تعالى مذهب الجمهور، لم يخرِّج أحاديث الجانب الآخر، وترك ذكرها رأساً، وهذا من دأبه‏.‏ وإنَّما خصَّ اللحم بالشاة، لمكان الخلاف في لحم الإِبل، فإِنه ذهب أحمد رحمه الله تعالى إلى الوُضُوء منه ولو كان نِيئاً‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن المرادَ من الوضوء هو الوضوء اللغوي‏.‏ قلت‏:‏ وهو خلاف المُتَبَادر عندي، لا لِمَا قاله ابن تَيْمِيةَ، فإِن أقسام الوُضُوء قد ثَبَتَ عندي في غير واحدٍ من الأحاديث، بل لأنه لا يَشْهَدُ به الوجدان، ولا يشْهَد به العمل، وإن كان لا بُدَّ لك أن تقول به، فالأَولى أن تستدلّ عليه بما أخرجه السيوطي في «الجامع الكبير» عن «المختارة» للضياء المَقْدِسي‏:‏ «الوُضُوء الناقص ممَّا مَسَّت النار» فليُحْمَل الوُضُوء في هذه الأحاديث على الوُضُوء‏.‏ الناقص على رواية «المختارة»، والحافظ ضياء الدين شرط الصِّحَّة في كتابه، وقال ابن تَيْمَيِة‏:‏ إنه أحسن من «المستدرك» للحاكم، ثم إن حديث‏:‏ «الوضوء ممَّا مَسَّت النار»، يشتمل على القصر، وقد وجَّهناه فيما أَمْلَيْنَاه في درس «الجامع» للترمذي‏.‏

208- قوله‏:‏ ‏(‏يَحْتَزُّ‏)‏، ولم يكن الاحتزاز للأكل كما يفعلونه أهل أوروبا، بل للقطع لفقط، وقطعة اللحم إذا كانت كبيرة، لا بُدَّ من قطعها‏.‏ ثم تلك أمورٌ يعرفها كلٌّ بِفِطْرَتِه السليمة‏:‏ أن أيها يكون للضرورة، وأيها للتشُّبه بهم، فإِن كنت أوتيت من الإِيمان نوراً فاعرفه، فإِنَّ المؤمن ينظر بنور الله، وإلاّ فأنت وشأنك، وإنما يحادل في مثل هذه المواضع من لا حياء لهم ولا دين‏.‏ وصَدَقَ الله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإِنْسَنُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً‏}‏ ‏(‏الكهف‏:‏ 54‏)‏، والجدل‏:‏ بأن لا يريد العمل، ويتعلَّل بالشُّبُهَات، ويُخَاصِم المجرد هواه، فَلَسْنَا نَشْتَغِل بجوابهم، والله المستعان‏.‏

باب‏:‏ مَنْ مَضْمَضَ مِنَ السَّوِيقِ وَلَمْ يَتَوَضَّأ

ولمَّا كان عند المصنِّف رحمه الله تعالى بعض جزئيات ممَّا مسَّت النار، أراد أن يُبَوِّب لكلَ منها باباً باباً‏.‏

209- قوله‏:‏ ‏(‏صَهْبَاء‏)‏، وهي الموضع الذي رُدَّت فيها الشمس بين خَيْبَر والمدينة، وصحَّحه الطَّحَاوي في «مُشْكِل الآثار»، ونقل عن شيخه أنَّه أَوْصَى الأمة بحفظ هذه المعجزة الباهرة التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلّم ، ونَسَبَ النووي إليه أن قائل بتعدّد القصة وهو سهوٌ منه، وإنّما صحَّحَ الطَّحَاوِي واقعة واحدة ولم يقل بتعدّدها أصلاً، ولعلّ النووي لم يَظْفَر بالأصل أو لم يرجع إليه، فوقع في الغَلَط، هكذا تكون الأغلاط في أخذ النقول بدون المراجعات إلى الأصول‏.‏

والذي تحصَّل لي في تنقيح القصة‏:‏ «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم بَعَث علياً رضي الله عنه لحاجةٍ قبل العصر، فذهب إليها ولم يصل حتى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثم لما أَخُبِر به النبي صلى الله عليه وسلّم دعا له فرُدَّت له الشمس»‏.‏ وما سوى ذلك، فكلَّه من اضطراب الرواة، أمّا إنه لم يصلِّ العصر، فالوجه عندي أنه تَزَاحَم عنده أمران‏:‏ الأول‏:‏ الأمر العام في أداء الصَّلاة في وقتها، والثاني‏:‏ الأمر الخاص، وهو أَمرُ النبي صلى الله عليه وسلّم في هذا اليوم بالفَرَاغ عن حاجته التي بعثه إليها قبل غروب الشمس، كما يجيء في البخاري في قصة بني قُرَيْظَة، حيث أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم أَنْ يُصَلَّوا العصر في بني قُرَيْظَة، فأدركهم الوقت قبل بلوغهم إليهم، فصلّى بعضهم العصر نظراً إلى الأمر العام، ولم يُصَلِّها بعضهم حتى فاتتهم الصَّلاة، لأنَّهم رجَّحُوا الأمر الخاص على العام، وفَهِمُوا أنَّهم أُمِرُوا بأن يُصلُّوا العصر في هذا اليوم في بني قُرَيْظَة وإن فافهم الوقت في الطريق‏.‏ وهذا اجتهاد مُشْكِلٌ، لأنَّه إن رجَّحَ الأرمر الخاص، يَفُوته الأَمر العام، وإن عَمِلَ بالأمر العام، فإِنَّه الخاص‏.‏ ثم إِنَّ هذه القصة في خَيْبَر، وسَهَى بعضهم حيث فَهِمَ أنها في غزوة الخَنْدَق، مع أنه ليس فيها رَدُّ الشمس، بل فيها غروب الشمس وفوات الصلاة‏.‏

باب‏:‏ هَل يُمَضْمِضُ مِنَ اللَّبَن

وقد مرّ منِّي أن المَضْمَضَة لحال اللَّبَن، لا لحال الصَّلاة، فالمَضْمَضَة من متعلقات الأكل، وآدابه عندي، فيُسْتَحَبُّ عِقِيبه لا عند الصَّلاة خاصة‏.‏ نعم قد يجتمع الفراغ عنه والقيام إلى الصَّلاة، وحينئذٍ يتأكَّد كما قلتُ في حديث المستيقظ، فإِنَّه من مسائل المياه في الأصل، ثم الصِيَانة مطلوبةٌ في مياه الوُضُوء بالأَوْلَى، فَيَنْجَرُّ إلى الوُضُوء أيضاً، وإليه يُشِير تعليله‏:‏ «بأن له دَسَماً»، يعني به‏:‏ أنَّه لحال الطعام‏.‏

باب‏:‏ الوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنَ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَينِ أَوِ الخَفقَةِ وُضُوءًا

وظاهر الرواية فيه‏:‏ أنَّ النَّوم عند تمكُّن المَقْعَدَة لا يُفْسِد، ويُفسد عند التَّجافي، وأمَّا الهيئة التي في كتب الفقه فأوَّل في فضَّلَها الطحاوي، ثُمَّ تبعه القُدُوري، ثم تبعه الناس، وفي «الدُّر المختار»‏:‏ إن تمكَّن مقعده ونام، وإن طال، وفي عبارةٍ‏:‏ وإن جلس مستنداً، فهذا هو المذهب‏.‏ أمَّا الفَتْوَى فإنَّها تبني على المصالح واختلاف الزمان والمكان، فلا يُوَسَّع فيها في هذه الأيام، فإنَّها أيام يأكل فيها الناس كثيراً، فيُحْدِثُون مع تمكُّن المَقْعَدَة‏.‏ وذهب بعضهم إلى أن النوم ناقضٌ مطلقاً، وقال آخرون‏:‏ إنه غير مناقض، مطلقاً‏.‏

وحاصل ترجمة المصنِّف رحمه الله تعالى‏:‏ أنَّ فيه تفصيلاً، فيكون ناقضاً تارةً غير ناقض تارةٍ ولم يَضْبطه، لأنه وغير مُمْكِن، ومذهب الحنفية مرَّ تفصيله‏.‏

212- قوله‏:‏ ‏(‏فلْيَرْقُد‏)‏، أي حتى يعلم أنَّه يَسْتَغِفرُ أو يَسُبَّ، وأنه ماذا يَقْرَأ، وفي «الدُّرِّ المختار»‏:‏ أن الاختيار شرطٌ للصَّلاة، ومُرَاده أَنْ يكونَ بحيث يبقى له فَهْمٌ، فلا يَغْفُل عمَّا يفعل كُلِيَّةً، وفي «البحر»‏:‏ أنَّه لو نام في قعدة التراويح لم تَفْسُد صلاته وإن غرقا‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ قلتُ‏:‏ وكأنَّ الحديث مأَخوذٌ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 43‏)‏ إلخ‏.‏ ومن ههنا ذهب الفقهاء إلى أنَّ الأغماء والجُنُون ناقِضَان، فإِنَّهم رأوا أَنَّ القرآنَ جَعَل العلم بما يقولون غايةً للصَّلاة، فإِذا كان بحيث لم يَكُن له أن يَعْلَم ما يقول، فإِنه لا يَقْرَب الصَّلاة، فجعلوا الإِغْمَاء والجُنُون ناقضتين، لأنَّه لا يَدْرِي فيهما ما يقول‏.‏

ومِنْ هذه الآية أُخِذَ أدنى مقدار الخُشُوع‏:‏ وهو أنَّ يَعْلَم الرجل أنَّه ماذا يقرأ هو أو إمامه، فاعلمه فإِنَّه مهمٌ ثم الخُشُوع مُسْتَحبٌّ كما في «الاختيار شرح المختار»، ولم أجده في عامة كُتُبنا، وهو بالنظر إلى مَوْضع سُجُوده في حال القيام، إلى آخر ما قالوا، ولم أَزَل أَتَتَبَّعُ لهذا التفصيل مَأْخَذاً من كتب أصحابنا، فرأيته في متن «المبسوط» للجُوْزَجَانِي، وهو تلميذُ محمد بن الحسن رحمه الله تعالى‏.‏ وعن أحمد رحمه الله تعالى في كتاب «الصَّلاة»‏:‏ أنَّ المصلِّي في حال القيام يَحْني رأسه شيئاً، إلاّ أني أتردَّد في كون الكتاب المذكور من تصنيف أحمد، وفي «الفتح»‏:‏ أنَّه تصنيفه‏.‏

212- قوله‏:‏ ‏(‏لعلّه يَسْتَغِفر‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، أي ءَريد أن يَسْتَغْفِر، فَيْهجُر ويَسُبّ نفسه مكان استغفاره لها، وقيل‏:‏ معناه أن يَمَلَّ عن الصلاة، فيَسُبّ نفسه لِمَ فُرِضَتْ عليه‏.‏

باب‏:‏ الوُضُوءِ مِنْ غَيرِ حَدَث

أراد أن يُشِير إلى الوُضُوء المُسْتَحَبّ، فأَخْرَجَ تحته الوُضُوء وتركه، وهو مُسْتَحَبٌّ في نحو عشرين مَوْضِعاً كما في «الدُّر المختار»، وقد مرَّ مني أَنَّ الوضوءَ عند كل صلاة مطلوبٌ عند الشرع، وهو الظاهر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 6‏)‏، ولذا لا أُقَدِّر فيه‏:‏ وأنتم مُحْدِثون، كم قَدَّره المفسِّرون، كيف وقد ثَبَتَ عند أبي داود بإِسنادٍ قوي‏:‏ «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان مأموراً بالوضوء طاهراً أو غير طاهر، فلمَّا شَقَّ عليه، أُمِرَ بالسِّواك عند كل صلاة»‏.‏ وعُلِمَ منه أيضاً أنَّ السِّوَاك بدل الوُضُوء، وكان الأصل هو الوُضُوء، إلاْ أنه لما شَقَّ عليه أُقِيَم أُنْمُوذَج الشيء مَقَام الشيء، وقد مرَّ مني عن «فتح القدير»‏:‏ أنَّ السِّواك مُسْتَحَبٌ عند الصَّلاة عندنا أيضاً، ثم الوضوء من الأشياء التي تقدَّمَ حكمُها نزولَ النَّص، لأنَّ آية المائدة آخرها نزولاً، والوضوء كان فرضاً قبلها أيضاً‏.‏

باب‏:‏ مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ لا يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِه

216- قوله‏:‏ ‏(‏فسمع صوت إنْسَانَيْن‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وهذا دليلٌ على أنَّ العذابَ محسوسٌ ومسموعٌ لمن كان له أذنان، لا أنه مُتَخَيَّلٌ فقط، نعم ه في عالم آخر، والناس يريدون أن يسمعوه في هذا العالم، فَيَقَعُون في الخَبْط، ألا أنّ الحواس الخمس في هذا العالم، ثم لا يدري أحدهما ما في عالم الآخر، فلا تدري الشَّامَّة ما السمع والذوق‏؟‏ ولا تدري السامعة ما الشمُّ والذوق‏؟‏ فهكذا لا يمكن أن يَكْتَنِهَ مَنْ في عالم الأجساد ما في عالم البَرْزَخ، إلاّ أَنْ يُسْمَعِه الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ‏}‏ ‏(‏فاطر‏:‏ 22‏)‏ ولم يدّعِ الشرع أَنَّ أحوال البرزخ من أحوال عالم الأجساد، ليُقَال إنَّا لا نسمع الصوت، ولا نرى أحداً في القبر معذَّباً إلى غير ذلك، فاعلمه‏.‏

216- قوله‏:‏ ‏(‏في كبيرٍ‏)‏ أي بحَسَب نَفْسِه ووجوده، لا بحَسَب الإِثم‏.‏ قال النَّووي ما حاصله‏:‏ إِنَّ عدم الاجتناب من البول ليس بكبيرة في نَفْسِهِ، بل يُفْضِي إلى كبيرة، وهي الصَّلاة في تلك الثياب النجسة المستلزِمَة لبطلان الصَّلاة‏.‏

قلت‏:‏ إنْ أراد به الصغائر لا يُعَذَّب عليها، فهو ليس بصحيحٍ، وإلا فعدم الإتقاء كبيرة في نَفْسِه، بل كان صغيرة تَصِير بالإِصرار كبيرة، فَمَنْ قلَّت مبالاته بأمر البول واعتاد به، فقد ارتكب الكبيرة، صلَّى فيها أم لا، لأنَّه قد مرَّ مني أن التطهُّرَ في عامة الأحوال مطلوبٌ، والتلظُّخ بالنجاسات مكروهٌ، وهذا وإن كان صغيرة، لكنه لمَّا أصرَّ عليه واعتاده، صار كبيرة حتى حقَّت عليه كلمة العذاب، والعياذ بالله‏.‏

216- قوله‏:‏ ‏(‏لا يَسْتَتِر‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وفي لفظ‏:‏ لا يَسْتَنْزِه، وفي لفظٍ آخر‏:‏ لا يَسْتَبْرِأ‏.‏ وتوهَّم بعضهم‏:‏ أن معناه إنه لم يكن يَسْتُر عورته عند البول‏.‏ وقيل معناه‏:‏ إنه لم يكن يَحْتَرِز عن رِشَاش البول‏.‏

أقول‏:‏ ومُحَصَّل كلها واحدٌ مع فرق يسيرٍ بينها، فمعنى عدم الاستتار‏:‏ أنَّه لم يكن يضع سُتْرة بينه وبين البول، ولا يتَّقي من رِشَاشه، فيعود إليه رِشَاشه‏.‏ والاستنزاه والاستبراء‏:‏ هو الاستنجاء على طريقٍ مسنونٍ، أعني به الطريق الذي يعمل به النَّاس لقطع التقطير‏:‏ من التنحنح، والمشي خطوة أو خطوتين، كالنَّتْر عند ابن ماجه مرفوعاً، وهو عند الأطباء مُضِرُّ‏.‏ فإِن كان ما أظنُّه صحيحاً، فالحديث على الأخيرين يَقْتَصِر على بول النَّاس فقط، ويكون معناه‏:‏ أنَّه لم يكن يَحْتَاط في الاستنجاء ودفع التقطير، فابْتُلِي بالعذاب لأجل هذا التهاون، وعلى الأول يمكن أن يُرَاد من البول مُطْلَقه الشامل لبول الإِنسان وغيره، لأنَّ عدم الاتقاء من رِشَاش البول يتحقَّق في سائرها، ويكون معناه‏:‏ أنه مُعَذَّبٌ لقلة مُبَالاته بالأبوال‏.‏

ثم قَتَّشْتُ عن وجه خصوصية البول في عذاب القبر، ليظهر أنَّ المراد به بول النَّاس أو مطلقه، فإِن كان ذلك المعنى مُخْتَصّاً ببول الناس، يقتصر الحديث على أبوالهم، وإن كان عامّاً فليَعُمَّ الحديث أيضاً حَسَب عمومه، ولم أرَ فيه شيئاً غير ما في «شرح الهداية»‏:‏ «أنَّ أول ما يُسْأَل العبد عنه يوم القيامة، هو الصلاة»‏.‏ فناسب أن يكون أول ما يُسْأَل عنه في القبر هو الطهارة، لأنَّ البَرْزَخ مقدَّمٌ على الحشر والطهارة متقدِّمة على الصَّلاة، فناسب أن يُسْأَل في أول منزل من منازل الآخرة عن شرائط الصلاة‏.‏

وما وَضَح لديّ هو أنَّه لا دَخْلَ فيه لخصوصِ البول، بل النَّجاسات كلها مُؤَثِّرَة في العذاب، لأنَّ ملائكة الله تتأذَى عن النجاسات بطبعهم، والمعاملة في القبر إنما تكون معهم، فيقَعَ من جانبهم التعذيب لهذا، فالملائكة إنما يَسْتَأْنسُون بالطهارة، ويَتَنْفَّرون بالنجاسة، والبول نجاسةٌ حِسّاً، والنميمة معنًى، لأنَّها لحم الأخ‏.‏

وإنَّما خصَّ ذكر البول، لأنَّ الخِثَي والرَّوْثَةَ وعَذِرَةَ الإِنسان، وكذا سائر القَاذُورَات يَحْتَرِز عنها كلُ جاهل وعالمٍ من فِطْرَته، وقَلَّما يتحمَّل أن يتلطَّخ بشيء منها بخلاف البول، فإِنَّ عامةَ العرب لم يكونوا يبالُون به، كما صرَّح به الشارِحون في قصة بول الأعرابي‏:‏ أنَّ بوله في المسجد كان على عادتهم في قلة المُبَالاة به‏.‏ ولذا قال‏:‏ «وما يُعَذَّبان في كبير»‏.‏

216- قوله‏:‏ ‏(‏ما لم يَيبْسَا‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، قيل في وجه تخفيف العذاب‏:‏ إنَّه من آثار تسبيح الجريدة، وإنما وقته باليَبْس، لأنَّها لا تُسَبِّح بعده‏.‏ وقيل‏:‏ بل هو ببركة يده الكريمة، ومثل هذه الواقعة عند مسلم في أواخره، وفيها تصريحٌ باستشفاعه صلى الله عليه وسلّم لهما، ففي حديث جابر الطويل في صاحبي القبرين‏:‏ «فأُجِيبت شفاعتي أن يرفع ذلك عنهما ما دام القضيبان رَطْبَان»، وهذا صريحٌ في شفاعته صلى الله عليه وسلّم وأنَّه لا دَخْل فيه للقضيب، نعم عدم اليَبْس أجلٌ فقط، فالتوقيق ليس لعدم التسبيح بعده، بل لأنَّه ضُرِبَت له هذه المدة‏.‏

ثم إنَّ الحافظين بَحَثَا في هاتين القصتين أنهما اثنتان أو واحدة، ومال الحافظ رحمه الله تعالى إلى التعدُّد، وقال‏:‏ إنَّ ما في الباب قصة المُسْلِمَيْن في المدينة، وما في أواخر مسلم قصة الكَافِرَيْن في سفرٍ، وإلتزام تخفيف العذاب عن الكافر مع عدم النجاة‏.‏ وذهب الشيخ البدر العَيْني إلى الوَحْدة‏.‏

أمَّا إلقاء الرَّيَاحين على القبور، ففي «الفتاوي الهِنْدِيَّة» عن «مطالب المؤمنين»‏:‏ أنَّه جائزٌ تمسُّكاً بحديث الباب‏.‏ قلت‏:‏ وصرَّح العْيَني أنَّه لغوٌ وعَبَثٌ‏.‏ وقال الخطَّابي‏:‏ إِنَّ ما يفعله الناس على القبور لا أصل له كما في النووي، ومُصَنِّف «المطالب» ليس من الكبار لِيُثَق به، بقي البحث في أنَّ المُؤثِّرَ لو كان هو التسبيح، فهل ينقطع عنها التسبيح، بعد اليَبْس، فإِنه يخالف ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 44‏)‏‏.‏

البَحْثُ في تسبيح الأشجار، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏

واعلم أنَّ المفسِّرين أخْرَجُوا آثاراً تحت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏، ويُسْتَفَاد منها انقطاع التسبيح في زمان، مع أنَّ الآيةَ تدلُّ على العمومِ، ففي الآثار‏:‏ أنَّ الثوبَ إذا كان أبيض، فإِنَّه يسبِّح، وإذا اتّسَخَ، فإِنه لا يسبِّح، وهكذا الماء إن كان جارياً يسبِّح، وإن ركد ينقطع عنه التسبيح، وكذلك المرأه إذا حاضت، وأمّا الحمار والكلب، فإنهما لا يُسَبِّحَان أصلاً، ومن ههنا تبيّن لي وجهُ كونهما قاطِعَيْن لصلاة المُصَلِّي، فإِذا كانت دونهما سُتْرةٌ لم يَضُرَّ مرورهما، ولذا غَضِبَت عائشة رضي الله عنها، وقالت‏:‏ «عدَّلْتُمَونا بالكلاب والحُمُر»‏.‏ وقيّد الحائضة وإن لم يكن في عامة الطُرُق، لكنه عند أبي داود‏:‏ «يقطع الصَّلاة‏:‏ المرأة الحائضة، والكلب» ولم أرَ أحداً منهم تنبَّه لهذه الدقيقة‏.‏

قلتُ‏:‏ ولذا يتنجَّس بوقوع النحاسة، كما اختاره الحنفية، وهكذا الحال في الحجر إذا ثَبَتَ في مكانه وإذا أُقْلِع، والشجر إذا كان رَطْباً وإذا يَبِسَ‏.‏ والذي تبيَّن لي- والله تعالى أعلم- أنَّ هذه الأشياء كلها تُسَبِّح في الحالين، كما شَهِدَ به النص، إلاّ أنه يتغيّر نوع تسبيحها، فإِن الاتساخَ والرُّكُود والقَطْع والقَلْع موتٌ لهذه الأشياء، وهكذا الإِنسان يُسَبِّح نوعَ تسبيحٍ ما دام حياً، وإذا مات وصار تراباً ولَحِق أجزاءه بالعناصر، فإِنَّه لا يُسَبِّح هذا التسبيح، بل بتسبيح العناصر، فيتغيَّر نوعُ تسبيحه، لا أنه لا يُسَبِّح أصلاً، لأنَّ القرآن صرَّح بأن تسبيحَ كل نوعٍ على حِدَة، فقال‏:‏ ‏{‏كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 41‏)‏ وهكذا يُسْتَفَاد الاستغراق من عامة الآيات، إلاّ في آيةٍ واحدةٍ، فإنَّها تُشِيرُ إلى التخصيص، فقال بعد ذكر السجدة- والسجدة والتسبيح من نوع واحد- ‏{‏وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏ 18‏)‏، قال الشيخ الأكبر في «الفصوص»‏:‏ إن بُنْيَة الكافر لا تُسَبِّح، وتسبِّح أجزاءه‏.‏

قلت‏:‏ ومراده ما مرَّ مني‏:‏ أنَّ الهيئةَ الوحدانية لا تُسَبِّح، وإنما تُسَبِّح أجزاءه وعناصره من نوع تسبيحه‏.‏

والحاصل أنَّ الشجرَ الرَّطب يُسيَبِّح تسبيح النبات، وإذا يَبِسَ فإِنه يُسَبِّح تسبيح الجماد، وهو معنى قوله‏:‏ «ما لم يَيْبَسا»‏.‏

وليُعْلَم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ‏}‏ ليس فيه استثناءٌ صراحةً، فإِن الاستثناء إخراجٌ عن الحكم، وليس له عندهم لفظ سوى «إلاّ» بل خاصٌّ وَرَدَ بنقيض حكم العامّ، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَىْء‏}‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 44‏)‏ إلخ، فليس فيه استثناء، بل تَعَارُض، فهو يُومِيء إليه‏.‏

ثم أقول‏:‏ ليس العذاب في القبر غير تلك المعاني التي يراها الرجل في حياته من الضيق والإِنشراح، فمن يرى في نومه أنه متلطَّخ بالنجاسات مثلاً، فإِنه تَشُمَئِزُّ نفسه، ويَضِيقُ صدره، وتَطُول عليه ساعاته، كذلك في القبر إذا يرى نفسه متلطِّخة بالنجاسة، فإِنه يَتَنَفَّر عنه، ولعلّ الغِيبَة تتجسَّد لحماً، ويكون بهذا الطريق عذابه‏.‏ ونِعْمَ ما قال الصفدي‏:‏

شَرُّ الوَرَى بمساويء الناس مَشْتَغِلٌ *** مثل الذباب يَرْاعَى مَوْضِع العِلَلِ

ولا أجد أحداً من الحيوانات مُتَتَبِّعاً للنجاسات مثل الذباب والكلب، وفي الكلب معاني أخرى أيضاً، فمن عاداته الوُلُوغ في الأواني، فلا يَمرُّ بآنيةٍ إلاّ ويشَمُّها ويَلَغُ فيها، ومن عاداته أن يَسْطُوَ على الإِنسان، فإِذا هدَّده بالعصى فرَّ، ثم إذا تَغَافَل عنه شيئاً عاد إليه‏.‏ وهو حال الشيطان، فإِنه أيضاً في مراقبة أحوال الإِنسان، فإِذا وَجَدَ موضع نقص فيه، وكذلك حاله مع الذكر كحال الكلب مع العصى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 201‏)‏، فذكر الله مَطْرَدَةً للشيطان، وحياةً للقلب، فتلك الطبائع الإِبليسية التي في جِبْلَة الإِنسان هي التي تتمثَّل في القبر، ويزداد منها عذاباً، لا أُرِيدَ به أن العذاب في القبر تَخْييلٌ فقط، كما تَفَوَّه به بعض الملاحدة، بل أُرِيد تفهيمه وتقريبه إلى الأذهان بنوع من الأمثلة، فيُعَذَّب في القبر كما وَرَدَ في الحديث‏.‏

باب‏:‏ مَا جَاءَ فِي غَسْلِ البَوْل

فَقَصَر البول على بول الناس، ونصَّ عليه، ولم يُرِد به مطلق البول، واختار طهارة بولَ مأْكُول اللحم، وحينئذٍ يقتصر قوله‏:‏ يستزهوا من البول، على بول النَّاس عنده، بل يُسْتَفَاد من تراجمه‏:‏ أنه اختار طهارة الأبوال سوى بول الإنسان، وقال الشارحون‏:‏ إنه اختار مذهب داود الظاهري القائل بطهارة الأبوال والأذبال غير عَذِرَة الإِنسان والخنزير والكلب‏.‏ قلت‏:‏ وقد مرّ مني في الباب السابق‏:‏ لفظ الاستنزاه والاستبراء يُشْعِرُ بأنَّ المراد منه بول الإِنسان، فإِنه لا يتحقَّق إلا في الإِنسان، فلفظ الاستنزاه في هذا الحديث يُوميء إلى أن المُرَاد به بول الناس خاصةً، وحينئذٍ يسقط الاحتجاج به على نجاسة سائر الأبوال‏.‏

والقرينة الثانية على أن المراد به بول الناس فقط‏:‏ ما رُوِيَ عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أصابهم البول يَقْرِضُون جلدهم بالمَقَاريض‏.‏ وأوَّلَهَ ابن دقيق العيد، وقال‏:‏ إن المراد من قطع الجلد هو قطع الفَرْوِ دون قطع الجسد، فإِنه مُسْتَبْعَدٌ‏.‏

قلت‏:‏ ورأيت في بعض الألفاظ قطع الجسد أيضاً، ثم رأيت في «مصنَّف ابن أبي شيبة»‏:‏ «أنهم كانوا مأمورين بقطع الثوب في الدنيا، أمَّا قطع الجلد، فكان عذابهم به في قبورهم»‏.‏ فتبيَّن لي أن هذا القطع كان طريق عذابهم في القبر، وأظنُّ أن أثره باقٍ في هذه الأُمّة أيضاً، وإن كان خُفِّفَ فيه بنوعٍ، والله أعلم‏.‏

والقرينة الثالثة‏:‏ أن الرُّوَاة إنما يَتَنَاقَلُونه في بَوْل الناس، يعني أنَّ الرُّوَاة عند السؤال والجواب والمُرَاجعات إذ يأتون بهذا الحديث يريدون به بول الناس، وهذا يؤيِّد أنه محمولٌ على بول الناس عندهم، ولمَّا لم يكن عندي دليلٌ على التخصيص، رَاعَيْتُ الجانبين، فقلتُ باعتبار تَنَاقُل الرُّوَاة‏:‏ إن المراد منه بول الناس، وهو مراد أَوْلَى، ولفقدان دليل التخصيص قلتُ‏:‏ إنَّ المرادَ منه البول مطلقاً، وهو مرادٌ ثانوي‏.‏ وهذا واسع عندي‏:‏ أن يقتصر الشيء على أمر باعتبار مراده الأَوْلى ويُعَمَّم يَحَسب مراده الثانوي، ولأنَّه لا فارق بين بول الناس وغيره، فيلحق غيره به أيضاً‏.‏

وقد تحقَّق عندي تعدُّد المِصْدَاق، ولم يُنَبِّه عليه أحدٌ، إلاّ بعض شارحي «التلويح» حيث قال‏:‏ إن خمر العنب مِصْدَاق أَوْلى للفظ الخمر، وما يقوله الجمهور مِصْدَاق ثانوي له‏.‏ وهكذا أقول في البول، ثم أقول‏:‏ إنَّ الحُكمُ إذا ورد على اسم يكون بعضُ ما صَدُقَاتِ مُسَمَّاهُ كثيرَ الوقوع، ثم خَصَّص الحديثُ هذا البعضَ الذي هو كثيرُ الوقوع بحكم، فهل يقتصر هذا الحكم على هذا البعض فقط، أو يدور على الاسم مطلقاً‏؟‏ والذي يتَّضِح‏:‏ أنه يدور على الاسم، ولا يَقْتَصِر على هذا البعض، لأن الاقتصار فيه إذا كان لكَثْرَة الوقوع، فلا معنى للتخصيص، وههنا أيضاً كذلك، فإِنَّ حُكْمَ التعذيب وإن اقتصر على بول الناس، كما اختاره البخاري، إلاّ أن تخصيصه بالذكر لكَثْرَة المعاملة معه، فلا يَقْتَصِر الحكمُ عليه، بل يتعدَّى إلى سائر الأبوال، وحينئذٍ لا يحتاج إلى التقرير السابق أيضاً‏.‏

أما الأصوليون فلم يذكروا تعدُّد المِصْدَاق، نعم قسَّمُوا العُرْف إلى‏:‏ لفظِيِّ، وعمليَ، واللفظي‏:‏ أن يدلّ عليه اللفظ بوضعه‏.‏ والعمليَّ ما تُرِكَ به العمل في بعض ما صَدُقَاتِه، وإن اشتمل عليه اللفظ لغةً كاللحم، فإِنه لا يُطْلَقُ في العُرْف على لحم السمك، وإن اشتمل عليه لغةً، فاعتبروا اللفظيَّ مطلقاً، وقد يَعْتَبِروُن بالعملي أيضاً، ويجعلونه مخصِّصاً كما في اللحم، فمن حَلَف أن لا يأكل اللحم، فإِنه لا يْحْنَثُ بأكل لحم السمك‏.‏

والذي أقول في مثل هذه المواضع‏:‏ هو إقامة المراتب واختلاف الأحكام في بعض أفراد المُسَمَّى، ففي معنى اللحم مراتب يَسَعُ للمتكلِّم أن يريدَ بعضَها ويَتْرُكَ بعضَها، وهذا أيضاً وجه‏.‏ وإقامة المراتب لم يتعرَّض إليها الأصوليون أيضاً، وكان مهماً‏.‏ وما في حاشية «نور الأنوار» نقلاً عن «مُسْتَدْرَك الحاكم» أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم لما فَرَغ من دفن سعد، وابْتُلي بعذاب القبر، جاء إلى امرأته فسألها عنه، قالت‏:‏ كان يرعى غنماً، ولا يستتر من بولها، فقال‏:‏ «استنزهوا من البول»، فلم أجده في النسخة المطبوعة ولا في القدر الموجود من النسخة القلمية عندي، ولو ثَبَتَ لكان فصلاً في الباب، وسيأتي بعض الكلام في باب ما يقع من النجاسات‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

باب‏:‏ تَرْكِ النبي صلى الله عليه وسلّم وَالنَّاسِ الأَعْرَابِيَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَوْلهِ فِي المَسْجِد

لعلّه يريد بيان ما هو الأنفع فيما بَالَ الرجل في‏:‏المسجد، ولم يدخل في مسألة التطهير بعد، وقد مرَّ في باب الماء الذي يُغْتَسل به شعر الإِنسان‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

باب‏:‏ صَبِّ المَاءِ عَلَى البَوْلِ فِي المَسْجِد

باب‏:‏ يُهَرِيقُ المَاءَ عَلَى البَوْل

يَطْهُرُ السَّطْحُ بالصَّبِّ، والجَوْفُ بالجفاف أو بالحفر، لأنَّه إذا صَبَّ الماء يصير جارياً، واعلم أنَّ في فقهنا مسألة عجيبة وهي‏:‏ أنَّ دَلْوَين إذا كان أحدهما نَجِساً والآخر طاهراً، ثم صُبَّا من الفَوْق معاٌ، يكون مجموع الماء الساقط طاهراً للجريان، فيراها النَّاظر ويَزْعُم أنَّها متفقٌ عليها بدون اختلاف، مع أنها تُبْنَى على أصل آخر اخْتُلِفَ فيه عندنا، وهو أن الجَرْيَ هل يُشْتَرَطُ له المَدَدَ أم لا‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ إن الماء لا يُسَمَّى جَارِياً ما لم يكن له مَدَد، وأطلقه آخرون وسمَّاه جارياً بمجرد الجَرْي‏.‏ ثم جعلوا يتفرَّعُون على قول من لم يَشْتَرِط المَدَدَ للجَرَيَان، كما رأيت المسألة المذكورة، فينظرها ناظر ويَغْفُل عن الأصل الذي اخْتُلِف فيه، وبظنها مُسَلَّمَة بدون اختلاف، فاعلمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏طائفة المسجد‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وترجمة الناحية عندي ‏(‏يكسو‏)‏ وعلى هذا ما في «الموطأ» لمحمد رحمه الله تعالى‏:‏ «أَحْسِن إلى غنمكِ وأَطِبْ مُرَاحها، وصلِّ في ناحيتها، فإِنَّها من دوابِّ الجنة»، معناه يكسوا ورايكطرف هو كرنما يثره، فيكون دليلاً على نجاسة أزبالَ مأْكُول اللحم وأبوالها، لأنه أمره بالتجنُب عنها، والصَّلاة في الناحية‏:‏ أي في طرف منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أعرابي‏)‏ هو ذو الخُوَيْصِرَة وهو يماني، ورجل آخر تميمي، والأوَّل رجل صالح، والثاني شِقَّي رأس الخوارج، نبَّه عليه ابن الأثير‏.‏